الفكر
الإسلامي
الشريعة
تنهى عن الاحتفال بميلاد النبي ﷺ
في يوم
محدّد من ربيع الأول
بقلم : الشيخ الجليل المربي الكبير العلامة
أشرف علي التهانوي
المعروف بـ Kحكيم الأمةJ المتوفى 1362هـ
/ 1943م
تعريب : أبو أسامة نور
بمناسبة موعد حلول شهر ربيع الأول ، أودّ أن أتحدّث قليلاً عن النبي – ﷺ – لأنه شهر وُلِدَ ﷺ فيه ، فتشتد فيه الرغبة في الحديث عنه ﷺ ، وتتجدّد ذكراه . ولو لم تُحْدَثِ المنكرات التي أُحْدِثـَتْ ، لكان ذكره – ﷺ – في هذا الشهر ، ولكان ما يحدث فيه من الرغبة في الحديث عنه دليلاً على حبّه – ﷺ – ولكن المؤسف أن المنكرات دفعت رجالَ الفتوى إلى النهي عن العمل بالهيئة الخاصّة لذكره – ﷺ – و إلاّ فإن هذه القضية لم تكن لتكون موضع خلاف ونقاش . وإنّما اضْطُرُّوا إلى المنع عنه لأنّه من القضايا المتفق عليها أنّ «دفع المضرة مُقَدَّمَةٌ على جلب المنفعة . وبما أن المسلمين يحبون بدورهم النبي – ﷺ – فالدعوةُ إلى حبّه ليست واجبةً وإنما هي مندوبةٌ وأحبُّ المندوبات . أما الاحتراز من المنكرات فهو واجب لا مَحَالَةَ ؛ فذكره – ﷺ – لايندب إلاّ إذا خلا من المنكرات .
وهنا
اختلف الصوفية والعلماء . فالصوفيةُ يقولون بالعمل بالمندوب في كل حال مع الاجتهاد
في إصلاح ما اكتنفه من المنكرات ، والعلماء يقولون: إن إصلاح المنكرات في بعض
المواقف لايتمّ إلاّ بترك المستحبات التي اكتنفتها المنكرات ؛ فهم يأمرون لدى عموم
المنكرات بالاحتراز الكامل من المندوبات التي اكتنفتها المنكرات . والعملُ في هـذا
الباب إنما يكون بقول العلماء لا بقول الصوفية ؛ لأنهم أصحابُ أشواقٍ فقط ؛ فهم
لايُبَالُون بما يترتّب على غيرهم من الأحوال والنتائج إذا كانوا صوفيةً فقط
وماكانوا إلى ذلك علماء متعمّقين في علوم الكتاب والسنّة . أما العلماء الراسخون
فهم معنيّون بتنفيذ الأوامر والنواهي وبما يدعو إليه ذلك من الترتيبات . ورأيُ
المعنيين بذلك يُقَدَّمُ على رأي غيرهم .
والفرق
بين حالة العلماء وحالة الصوفية يمكن استجلاؤه بمثال : إذا عَمَّ الوباءُ اقترح
الأطباء بالامتناع عن الجوافة ، ورغم ذلك يكون هناك طبيب لايمتنع عن تناوله ،
وإنما يظلّ يصيب منه بقدر قليل مشفوعًا بما يزيل مفعوله السلبيّ ؛ ولكن طبيبًا آخر
يمتنع كليًّا عن تناوله ، تحسبًّا منه أن عامّة الناس إذا رَأَوه يصيب منه ولو
قليلاً ومقرونًا بما يبطل مفعولَه السلبيّ ، تناولوه دونما حيطةٍ وبشكل عشوائي غير
وقائيّ ، فيتعرضون للتهلكة . وكذلك يمنع الآخرين عن تناوله منعًا مطلقًا ، بل يقذف
ركامًا منه ويدفنه في الأرض مما يجعل البعض يظنّ أنه ليس لديه رغبة ما فيه ، وأن
الطبيب الذي لايزال يتناوله لديه هواية فيه ؛ ولكن العليم بالواقع يدرك أن رغبة
الطبيب الممتنع عنه لاتقلّ – بل تزيد – عن رغبه الطبيب المتناول فيه ؛ لكنّه
يتقّيه وقايةً للآخرين إيّاه ؛ فقل لي : أيٌّ منهما أَجْدَرُ بالاتّباع؟ لاشكّ أن
الطبيبَ المحتاطَ الممتنعَ عن تناوله كليًّا هو الجدير بالاتّباع ؛ لأن موقفهُ
مؤَسَّسٌ على الرعاية الصحيّة العامّة وعلى التدبير المسبق . فهذا هو الفرق بين
موقف الصوفية وموقف العلماء ؛ فالصوفية لايتغلبون على أشواقهم ، ويظلون يباشرون
العمل بالمندوبات مع الاجتهاد البالغ في إصلاح ما يكتنفها من المنكرات . أمّا
العلماء فيتغلبون على رغباتهم وأشواقهم اتخاذًا منهم التدابيرَ لمنع الآخرين عن
الارتباك في المنكرات ، علمًا منهم أن الجمهور لايمتنع عنها إلاّ إذا امتنعوا هم
عن العمل بالمستحبات التي اكتنفتها .
منزلة حبّ
الرسول ﷺ :
هناك
كثير من الناس يتّهموننا بأننا – من خلال منعنا عن عقد الاحتفال بميلاد النبيّ ﷺ
– نمنع عن ذكر الرسول ﷺ
. فليعلموا أن ذكر رسول الله ﷺ
وحبَّه هو جزء من صميم الإيمان عندنا ، فكيف يجترئ مسلم على أن يمنع أحدًا عن صميم
الإيمان . إن علماءنا يمنعون عن المنكرات التي تسرّبت إلى مجالس الذكر هذه ، وبما
أن إصلاح المنكرات وإزالتها لايتمّان إلاّ بالامتناع عنها وأنها ليست بواجبة في
الأيام المُخَصَّصَة ، فهم يمنعون عن عقدها بالترتيبات التي تُعْقَدُ بها . ومن
المنكرات التي تُرْتَكَبُ في هذه المجالس القيامُ خلالَها أو في نهايتها ، الذي
تجاوزتْ عقيدةُ العوام في شأنه حدودَ الشرع . وفي هذا القيام أيضًا يتّهمون
علماءَنا بأنهم يمنعون عن احترامِ ذكر الرسول ﷺ
بل عن احترامه ﷺ . وقد أجاد من أجاب
عن ذلك من علمائنا بأننا لانمنع عن احترامه ﷺ
أو احترام ذكره ﷺ ، وإنما نمنع عن
الإساءة إلى الله تعالى وارتكاب اللا اِحترام في شأنه سبحانه ؛ لأنكم لاتقومون لدى
ذكر الله تعالى . ولو قمتم عبر ذكركم مولدَه ﷺ
واستمع لكم الحضور قائمين من البداية إلى النهاية ، لما منعناكم عن القيام .
ومن البدع
القيام بالذكر بالجماعة بعد صلاتي الفجر والعصر أو الصلوات الخمس
بعد
كل صلاة من الصلوات الخمس أو بعد صلاتي الفجر والعصر بشكل مُحَدَّد ، يقرأ في بعض
المساجد جميعُ المصلين جهرًا «لا
إله إلاّ الله»
ويلتزمون بذلك التزامًا مُشَدَّدًا ؛ ولذلك اعتبر العلماء ذلك بدعةً ، فيتّهمهم
الجهلةُ ويقولون : ها هم أولاء جعلوا ذكر الله بدعةً . إنّ الحقَّ أن العلماء في
مأزق ، فلا يرضى بهم طائفة ؛ ولكن المنهج الشرعي لايمكن أن يظلّ مُتَّبعًا إلاّ
باتّباع العلماء . ولذلك كان خالي يقول: لو لم يوجد العلماء لاعتبر النّاس جميع
الناس كَفَرَةً . إننا مدينون للعلماء أنهم يرعون إيماننا ، إنهم كشرطة الإدارة
والرقابة التي لا تُدْرَكُ قيمتُها إلاّ في الليل الذي يَغِطُّ الناس فيه في النوم
آمنين : فلولم يكن العلماء لا اضْطُرَّ النساكُ والزهّادُ أن يخرجوا من حجراتهم ؛
لأن عمليّة إصلاح الخلق فرضُ كفاية ؛ وهنا كانت أوقاتُهم لتصبح مُشَتَّمةً
مُوَزَّعةً ولم يجدوا فرصَ الهدوء التي يجدونها اليوم تخلّى ليعمروها بالذكر
والعبادة والتلاوة مُتَفَرِّغِين من كل همّ ؛ فلو تخلّى العلماء – بشكل افتراضي –
عن هذه الفريضة ، لأصبح النساك والزهاد المتفرغون مُكَلَّفِين بالقيام بها؛ فأنتم
– أيها النسّاك ! – بخير وعافية مادام العلماء ذوو التدابير موجودين يقومون بفريضة
الدعوة والإصلاح أمّا أنتم فتنامون ملء الجفون ، وتذكرون الله إذا حالفتكم اليقظة
في الليل .
أمّا
موقفُ العلماء فهو مُتَمَثِّلٌ في قصّة العالم الصالح المجاهد الشيخ إسماعيل
الشهيد – رحمه الله – (1193-1246هـ = 1779-1831م) حفيد الإمام ولي الله أحمد بن عبد
الرحيم الدهلوي (1114-1176هـ = 1703-1762م) فقد كان يغمز في الليل أرجل ضيوف الشيخ
الكبير الإمام السيد أحمد بن عرفان الشهيد – رحمه الله – (1202-1246هـ =
1786-1831م) فإن سأله أحد منهم : من أنت؟ قال: أنا خادم من خَدَمَة الإمام ، فكان
الضيوف يُسَرُّون بأنهم مخدومون عن طريق الخادم . ولم يدروا إلاّ بعد فترة أن
القائم بغمز أرجلهم ليلاً إنما هو الشيخ إسماعيل الشهيد – رحمه الله .
إنها
كانت قصّةُ من سلف قبلنا . وقد سمعتُ أن أستاذي الشيخ محمود حسن الديوبندي –
المعروف بـ«شيخ
الهند»
(1268-1339هـ = 1851-1920م) صَنَعَ ما هو أكبر من ذلك . وقد تصببتُ عرقًا لدى
استماعي للقصة ، وقلتُ : ما أرفع المرتبةَ التي وصل إليها الشيخ في إنكار ذاته
وكسر شخصه ؛ فقد قالوا : إنه نزل عليه ضيف معه كافر . وعندما نام الضيوف لدى الضحى
في أيام الصيف ، دخل عليهم الشيخُ بخطوات وئيدة ، وبدأ يغمز رجلي الهندوسيّ . وقال
بعضُ من رَوَىٰ القصةَ : واتفق أني كنتُ صاحيًا ، فألفيتُه مسرعًا الخطى ،
وقلتُ له : سيديّ ماذا تصنع ؟ قال: إنّ هذا المسكين مجهودٌ مُتْعَبٌ ، فوددتُ أن
أخفّف عنه بعضَ ما يعانيه من التعب قلتُ له : إذًا أنا سأتولّى هذا العمل
فَتَنَحَّ أرجوك بالله . قال : لا ، إنك بدورك تعبانُ إلى أنك ضيفٌ عليّ ، فظَلَّ
أنتَ مضطجعًا فلم أدرِ إلى متى ظَلَّ الشيخُ يغمز رجلي الهندوسي وهو غاطٌّ في
النوم العميق ؛ لأن الكافر لن يستيقظ إلاّ بالموت الذي يتراءى له عنده ملائكةُ
العذاب . أمّا الآن فهم – الكفرة – نُوَّمٌ في حالة اليقظة هي الأخرى .
*
* *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم – صفر 1427هـ =
فبراير – مارس 2006م ، العـدد : 1–2 ، السنـة : 30.